فصل: الرسول يرمي المشركين بالحصباء

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: سيرة ابن هشام المسمى بـ «السيرة النبوية» **


 بسبس وعدي يتجسسان الأخبار

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وكان بسبس بن عمرو ، وعدي بن أبي الزغباء ، قد مضيا حتى نزلا بدرا ، فأناخا إلى تل قريب من الماء ، ثم أخذا شنَّا لهما يستقيان فيه ، ومجدي بن عمرو الجهني على الماء ‏‏.‏‏ فسمع عدي وبسبس جاريتين من جواري الحاضر ، وهما يتلازمان على الماء ، والملزومة تقول لصاحبتها ‏‏:‏‏ إنما تأتي العير غدا أو بعد غد ، فأعمل لهم ، ثم أقضيك الذي لك ‏‏.‏‏ قال مجدي ‏‏:‏‏ صدقتِ ، ثم خلَّص بينهما ‏‏.‏‏ وسمع ذلك عدي وبسبس ، فجلسا على بعيريهما ، ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبراه بما سمعا ‏‏.‏‏

 نجاة أبي سفيان بالعير

و أقبل أبو سفيان بن حرب ، حتى تقدم العير حذرا ، حتى ورد الماء ؛ فقال لمجدي بن عمرو ‏‏:‏‏ هل أحسست أحدا ‏‏؟‏‏ فقال ‏‏:‏‏ ما رأيت أحدا أنكره ، إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل ، ثم استقيا في شن لهما ، ثم انطلقا ‏‏.‏‏

فأتى أبو سفيان مُناخهما ، فأخذ من أبعار بعيريهما ، ففتَّه ، فإذا فيه النوى ؛ فقال ‏‏:‏‏ هذه والله علائف يثرب ‏‏.‏‏ فرجع إلى أصحابه سريعا ، فضرب وجه عيره عن الطريق ، فساحل بها ، وترك بدرا بيسار ، وانطلق حتى أسرع ‏‏.‏‏

 رؤيا جهيم بن الصلت في مصارع قريش

قال ‏‏:‏‏ وأقبلت قريش ، فلما نزلوا الجحفة ، رأى جهيم بن الصلت بن مخرمة بن عبدالمطلب بن عبد مناف رؤيا ، فقال ‏‏:‏‏ إني رأيت فيما يرى النائم ، وإني لبين النائم واليقظان ‏‏.‏‏ إذ نظرت إلى رجل قد أقبل على فرس حتى وقف ، ومعه بعير له ؛ ثم قال ‏‏:‏‏ قتل عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو الحكم بن هشام ، وأمية بن خلف ، وفلان وفلان ، فعدد رجالا ممن قتل يوم بدر ، من أشراف قريش ، ثم رأيته ضرب في لَبَّة بعيره ، ثم أرسله في العسكر ، فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه نضح من دمه ‏‏.‏‏

قال ‏‏:‏‏ فبلغت أبا جهل ؛ فقال ‏‏:‏‏ وهذا أيضا نبي آخر من بني المطلب ، سيعلم غدا من المقتول إن نحن التقينا ‏‏.‏‏

 أبو سفيان يرسل إلى قريش يطلب منهم الرجوع

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره ، أرسل إلى قريش ‏‏:‏‏ إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم ، فقد نجاها الله ، فارجعوا ؛ فقال أبو جهل بن هشام ‏‏:‏‏ والله لا نرجع حتى نرد بدرا - وكان بدر موسما من مواسم العرب ، يجتمع لهم به سوق كل عام - فنقيم عليه ثلاثا ، فننحر الجزر ، ونطعم الطعام ، ونُسقي الخمر ، وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا ، فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها ، فامضوا ‏‏.‏‏

 الأخنس يرجع ببني زهرة

وقال الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي ، وكان حليفا لبني زهرة و هم بالجحفة ‏‏:‏‏ يا بني زهرة ، قد نجَّى الله لكم أموالكم ، وخلّص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل ، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله ، فاجعلوا لي جُبْنها وارجعوا ، فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة ، لا ما يقول هذا ، يعني أبا جهل ‏‏.‏‏

فرجعوا ، فلم يشهدها زُهري واحد ، أطاعوه وكان فيهم مطاعا ‏‏.‏‏

ولم يكن بقي من قريش بطن إلا وقد نفر منهم ناس ، إلا بني عدي بن كعب ، لم يخرج منهم رجل واحد ، فرجعت بنو زهرة مع الأخنس بن شريق ، فلم يشهد بدرا من هاتين القبيلتين أحد ، ومشى القوم ‏‏.‏‏

وكان بين طالب بن أبي طالب - وكان في القوم - وبين بعض قريش محاورة ، فقالوا ‏‏:‏‏ والله لقد عرفنا يا بني هاشم ، وإن خرجتم‏ معنا ، أن هواكم لمع محمد ‏‏.‏‏ فرجع طالب إلى مكة مع من رجع ‏‏.‏‏ وقال طالب بن أبي طالب ‏‏:‏‏

لاهُمّ إما يغزونّ طالبْ * في عصبة محالف محاربْ

في مِقنب من هذه المقانب * فليكن المسلوبَ غير السالب

وليكن المغلوب غير الغالب *

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ قوله ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ فليكن المسلوب ‏‏)‏‏ ، وقوله ‏‏(‏‏ وليكن المغلوب ‏‏)‏‏ عن غير واحد من الرواة للشعر ‏‏.‏‏

 قريش تنزل بالعدوة والمسلمون ببدر

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي ، خلف العقنقل وبطن الوادي ، وهو يَلْيَل ، بين بدر و بين العقنقل ، الكثيب الذي خلفه قريش ، والقُلُب ببدر في العدوة الدنيا من بطن يليل إلى المدينة ‏‏.‏‏

وبعث الله السماء ، وكان الوادي دهسا ، فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها ما لبَّد لهم الأرض ، ولم يمنعهم عن السير ، وأصاب قريشا منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه ‏‏.‏‏ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يُبادرهم إلى الماء ، حتى إذا جاء أدنى ماء من بدر نزل به ‏‏.‏‏

 الحُباب يشير على الرسول صلى الله عليه وسلم بمكان النزول

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فحُدثت عن رجال من بني سلمة ، أنهم ذكروا ‏‏:‏‏ أن الحباب بن المنذر بن الجموح قال ‏‏:‏‏ يا رسول الله ، أرأيت هذا المنزل ، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ، ولا نتأخر عنه ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ بل هو الرأي والحرب والمكيدة ، فقال ‏‏:‏‏ يا رسول الله ، فإن هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم ، فننزله ، ثم نُغَوِّر ما وراءه من القلب ، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء ، ثم نقاتل القوم ، فنشرب ولا يشربون ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ لقد أشرت بالرأي ‏‏.‏‏

فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس ، فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه ، ثم أمر بالقلب فغورت ، و بنى حوضا على القَليب الذي نزل عليه ، فمُلىء ماء ، ثم قذفوا فيه الآنية ‏‏.‏‏

 بناء العريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فحدثني عبدالله بن أبي بكر أنه حدث ‏‏:‏‏ أن سعد بن معاذ قال ‏‏:‏‏ يا نبي الله ، ألا نبني لك عريشا تكون فيه ، ونعد عندك ركائبك ، ثم نلقى عدونا ، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا ، كان ذلك ما أحببنا ، وإن كانت الأخرى ، جلست على ركائبك ، فلحقت بمن وراءنا ، فقد تخلف عنك أقوام ، يا نبي الله ، ما نحن بأشد لك حبا منهم ، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك ، يمنعك الله بهم ، يناصحونك ويجاهدون معك ‏‏.‏‏ فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ، ودعا له بخير ‏‏.‏‏ ثم بُني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش ، فكان فيه ‏‏.‏‏

 ارتحال قريش ودعاء الرسول عليهم

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وقد ارتحلت قريش حين أصبحت ، فأقبلت ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تَصَوَّب من العقنقل - و هو الكثيب الذي جاءوا منه إلى الوادي - قال ‏‏:‏‏ اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها ، تحادك وتكذب رسولك ، اللهم فنصرك الذي وعدتني ، اللهم أحنهم الغداة ‏‏.‏‏

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقد رأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل له أحمر - إن يكن في أحد القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر ، إن يطيعوه يرشدوا ‏‏.‏‏

وقد كان خفاف بن أيماء بن رحضة الغفاري ، أو أبوه أيماء بن رحضة الغفاري ، بعث إلى قريش ، حين مروا به ، ابنا له بجزائره أهداها لهم ، وقال ‏‏:‏‏ إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فأرسلوا إليه مع ابنه ‏‏:‏‏ أن وصلتك رحم ، قد قضيت الذي عليك ، فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم ، ولئن كنا إنما نقاتل الله ، كما يزعم محمد ، فما لأحد بالله من طاقة ‏‏.‏‏

 إسلام ابن حزام

فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم حكيم بن حزام ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ دعوهم ‏‏.‏‏ فما شرب منه رجل يومئذ إلا قتل ، إلا ما كان من حكيم بن حزام ، فإنه لم يقتل ، ثم أسلم بعد ذلك ، فحسن إسلامه ‏‏.‏‏ فكان إذا اجتهد في يمينه ، قال ‏‏:‏‏ لا والذي نجاني من يوم بدر ‏‏.‏‏

 محاولة قريش الرجوع عن القتال

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني أبي إسحاق بن يسار وغيره من أهل العلم ، عن أشياخ من الأنصار ، قالوا ‏‏:‏‏ لما اطمأن القوم ، بعثوا عمير بن وهب الجمحي فقالوا ‏‏:‏‏ احزروا لنا أصحاب محمد ، قال ‏‏:‏‏ فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم ، فقال ‏‏:‏‏ ثلاث مائة رجل ، يزيدون قليلا أو ينقصون ، ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ فضرب في الوادي حتى أبعد ، فلم ير شيئا ، فرجع إليهم فقال ‏‏:‏‏ ما وجدت شيئا ، ولكن قد رأيت ، يا معشر قريش ، البلايا تحمل المنايا ، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع ، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم ، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم ، حتى يقتل رجلا منكم ، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك ‏‏؟‏‏ فروا رأيكم ‏‏.‏‏

فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس ، فأتى عتبة بن ربيعة ، فقال ‏‏:‏‏ يا أبا الوليد ، إنك كبير قريش وسيدها ، والمطاع فيها ، هل لك إلى أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ وما ذاك يا حكيم ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ ترجع بالناس ، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي ؛ قال ‏‏:‏‏ قد فعلت ، أنت علي بذلك ، إنما هو حليفي ، فعلي عقله وما أصيب من ماله ، فأت ابن الحنظلية ‏‏.‏‏

 الحنظلية ونسبها

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ والحنظلية أم أبي جهل ، وهي أسماء بنت مخُرِّبة ، أحد بني نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم - فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره ، يعني أبا جهل بن هشام ‏‏.‏‏

ثم قام عتبة بن ربيعة خطيبا ، فقال ‏‏:‏‏ يا معشر قريش ، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا ، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه ، قتل ابن عمه أو ابن خاله ، أو رجلا من عشيرته ، فارجعوا و خلوا بين محمد وبين سائر العرب ، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم ، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون ‏‏.‏‏ ‏

قال حكيم ‏‏:‏‏ فانطلقت حتى جئت أبا جهل ، فوجدته قد نثل درعا له من جرابها ، فهو يهنئها ‏‏.‏‏ - قال ابن هشام ‏‏:‏‏ يهيئها - فقلت له ‏‏:‏‏ يا أبا الحكم ، إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا ، للذي قال ؛ فقال ‏‏:‏‏ انتفخ والله سحره حين رأى محمدا وأصحابه ، كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد ، وما بعتبة ما قال ، ولكنه قد رأى أن محمدا وأصحابه أكلة جزور ، وفيهم ابنه ، فقد تخوفكم عليه ‏‏.‏‏ ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي ، فقال ‏‏:‏‏ هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس ، وقد رأيت ثأرك بعينك ، فقم فانشد خفرتك ، ومقتل أخيك ‏‏.‏‏ فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف ثم صرخ ‏‏:‏‏ واعمراه ، واعمراه ، فحميت الحرب ، وحَقِب الناس ، واستوسقوا على ما هم عليه من الشر ، وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة ‏‏.‏‏

فلما بلغ عتبة قول أبي جهل ‏‏(‏‏ انتفخ والله سحره ‏‏)‏‏ ، قال ‏‏:‏‏ سيعلم مُصَفِّر استه من انتفخ سحره ، أنا أم هو ‏‏؟‏‏ ‏‏.‏‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ السَحْر ‏‏:‏‏ الرئة وما حولها مما يعلق بالحلقوم من فوق السرة ‏‏.‏‏ وما كان تحت السرة ، فهو القُصْب ، ومنه قوله ‏‏:‏‏ رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار ‏‏:‏‏ قال ابن هشام ‏‏:‏‏ حدثني بذلك أبو عبيدة ‏‏.‏‏

ثم التمس عتبة بيضة ليدخلها في رأسه ، فما وجد في الجيش بيضة تسعه من عظم هامته ؛ فلما رأى ذلك اعتجر على رأسه ببرد له ‏‏.‏‏

 مقتل الأسود بن عبدالأسد المخزومي

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وقد خرج الأسود بن عبدالأسد المخزومي ، وكان رجلا شرسا سيئ الخلق ، فقال ‏‏:‏‏ أعاهد الله لأشربن من حوضهم ، أو لأهدمنه ، أو لأموتن دونه ؛ فلما خرج ، خرج إليه حمزة بن عبدالمطلب ، فلما التقيا ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه ، وهو دون الحوض ، فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه ، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه ، يريد - زعم - أن يبر يمينه ، وأتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض ‏‏.‏‏

 دعاء عتبة إلى المبارزة

قال ثم خرج بعده عتبة بن ربيعة ، بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة ، حتى إذا فصل من الصف دعا إلى المبارزة ، فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة ، وهم ‏‏:‏‏ عوف ، ومعوذ ، ابنا الحارث - وأمهما عفراء - ورجل آخر ، يقال ‏‏:‏‏ هو عبدالله بن رواحة ؛ فقالوا ‏‏:‏‏ من أنتم ‏‏؟‏‏ فقالوا ‏‏:‏‏ رهط من الأنصار ؛ قالوا ‏‏:‏‏ ما لنا بكم من حاجة ‏‏.‏‏

ثم نادى مناديهم ‏‏:‏‏ يا محمد ، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ قم يا عبيدة بن الحارث ، وقم يا حمزة ، وقم يا علي ، فلما قاموا ودنوا منهم ، قالوا ‏‏:‏‏ من أنتم ‏‏؟‏‏ قال عبيدة ‏‏:‏‏ عبيدة ، وقال حمزة ‏‏:‏‏ حمزة ، وقال علي ‏‏:‏‏ علي ؛ قالوا ‏‏:‏‏ نعم ، أكفاء كرام ‏‏.‏‏

فبارز عبيدة ، وكان أسن القوم ، عتبة بن ربيعة ، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة ؛ وبارز علي الوليد بن عتبة ‏‏.‏‏

فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله ؛ وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله ؛ واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين ، كلاهما أثبت صاحبه ؛ وكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذففا عليه ، واحتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابه ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ‏‏:‏‏ أن عتبة بن ربيعة قال للفتية من الأنصار ، حين انتسبوا ‏‏:‏‏ أكفاء كرام ، إنما نريد قومنا ‏‏.‏‏

 التقاء الفريقين

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ثم تزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض ، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرهم ، وقال ‏‏:‏‏ إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش ، معه أبو بكر الصديق ‏‏.‏‏

 تاريخ وقعة بدر

فكانت وقعة بدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من شهر رمضان ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ كما حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين ‏‏.‏‏

 ضرب الرسول ابن غزية

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني حبان بن واسع بن حبان عن أشياخ من قومه ‏‏:‏‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدل صفوف أصحابه يوم بدر ، وفي يده قدح يعدل به القوم ، فمر بسواد بن غزية ، حليف بن عدي بن النجار - قال ابن هشام ‏‏:‏‏ يقال ‏‏:‏‏ سوَّاد ؛ مثقلة ؛ وسواد في الأنصار غير هذا ، مخفف - وهو ‏مستنتل من الصف - قال ابن هشام ‏‏:‏‏ ويقال ‏‏:‏‏ مستنصل من الصف - فطعن في بطنه بالقدح وقال ‏‏:‏‏ استو يا سواد ، فقال ‏‏:‏‏ يا رسول الله ، أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل ؛ قال ‏‏:‏‏ فأقدني ‏‏.‏‏

فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه ، وقال ‏‏:‏‏ استقد ؛ قال ‏‏:‏‏ فاعتنقه فقبل بطنه ؛ فقال ‏‏:‏‏ ما حملك على هذا يا سواد ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ يا رسول الله ، حضر ما ترى ، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك ‏‏.‏‏ فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير ، وقاله له ‏‏.‏‏

 الرسول يناشد ربه النصر

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ثم عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف ، ورجع إلى العريش فدخله ، ومعه فيه أبو بكر الصديق ، ليس معه فيه غيره ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر ، ويقول فيما يقول ‏‏:‏‏ اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد ، وأبو بكر يقول ‏‏:‏‏ يا نبي الله ‏‏:‏‏ بعض مناشدتك ربك ، فإن الله منجز لك ما وعدك ‏‏.‏‏

وقد خفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة وهو في العريش ، ثم انتبه فقال ‏‏:‏‏ أبشر يا أبا بكر ، أتاك نصر الله ‏‏.‏‏ هذا جبريل أخذ بعنان فرس يقوده ، على ثناياه النقع ‏‏.‏‏

 أول شهيد من المسلمين

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وقد رمى مهجع ، مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل ، فكان أول قتيل من المسلمين ؛ ثم رمى حارثة بن سراقة ، أحد بني عدي بن النجار ، وهو يشرب من الحوض ، بسهم فأصاب نحره ، فقتل ‏‏.‏‏

 الرسول يحرض على القتال

قال ‏‏:‏‏ ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فحرصهم ، وقال ‏‏:‏‏ والذي نفس محمد بيده ، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا ، مقبلا غير مدبر ، إلا أدخله الله الجنة ‏‏.‏‏ فقال عمير بن الحُمام أخو بني سلمة ، وفي يده تمرات يأكلهن ‏‏:‏‏ بخ بخ ، أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ، ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه ، فقاتل القوم حتى قتل ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، أن عوف ابن الحارث ، وهو ابن عفراء قال ‏‏:‏‏ يا رسول الله ، ما يضحك الرب من عبده ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ غمسه يده في العدو حاسرا ‏‏.‏‏ فنـزع درعا كانت عليه فقذفها ، ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل ‏‏.‏‏

 ما استفتح به أبو جهل

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني محمد ابن مسلم بن شهاب الزهري ، عن عبدالله بن ثعلبة بن صُعَير العذري ، حليف بني زهرة ، أنه حدثه ‏‏:‏‏ لما التقى الناس ، ودنا بعضهم من بعض ، قال أبو جهل بن هشام ‏‏:‏‏ اللهم أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا يعرف ، فأحنه الغداة ‏‏.‏‏ فكان هو المستفتح ‏‏.‏‏

 الرسول يرمي المشركين بالحصباء

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل قريشا بها ، ثم قال ‏‏:‏‏ شاهت الوجوه ، ثم نضحهم بها ، وأمر أصحابه ، فقال ‏‏:‏‏ شدوا ؛ فكانت الهزيمة ، فقتل الله تعالى من قتل من صناديد قريش ، وأسر من أسر من أشرافهم ‏‏.‏‏ فلما وضع القوم أيديهم يأسرون ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش ، وسعد بن معاد قائم على باب العريش ، الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، متوشح السيف ، في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يخافون عليه كَرَّة العدو ، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر لي - في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم ؛ قال ‏‏:‏‏ أجل والله يا رسول الله ، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك ، فكان الإثخان في القتل بأهل الشرك احب إلي من استبقاء الرجال‏‏.‏‏ ‏

 نهى النبي عن قتل البعض وسببه

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني العباس بن عبدالله بن معبد ، عن بعض أهله ، عن ابن عباس ‏‏:‏‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يومئذ ‏‏:‏‏ إني قد عرفت أن رجالا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها ، ولا حاجة لهم بقتالنا ، فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله ، ومن لقي أبا البَخْتَري بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله ، فإنه إنما أخرج مستكرها ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فقال أبوحذيفة ‏‏:‏‏ أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخوتنا وعشيرتنا ‏‏.‏‏ ونترك العباس ، والله لئن لقيته لأُلْحِمنَّه السيف - قال ابن هشام ‏‏:‏‏ ويقال لأُلْجِمَنه السيف - قال ‏‏:‏‏ فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لعمر بن الخطاب ‏‏:‏‏ يا أبا حفص - قال عمر ‏‏:‏‏ والله إنه لأول يوم كنَّاني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي حفص - أيضرب وجه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف ‏‏؟‏‏ فقال عمر ‏‏:‏‏ يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه بالسيف ، فوالله لقد نافق ، فكان أبو حذيفة يقول ‏‏:‏‏ ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ ، ولا أزال منها خائفا ، إلا أن تكفرها عني الشهادة ، فقتل يوم اليمامة شهيدا ‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أبي البختري لأنه كان أكفَّ القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة ، وكان لا يؤذيه ، ولا يبلغه عنه شيء يكرهه ، وكان ممن قام في نقض الصحيفة التي كتبت قريش على وبني هاشم وبني المطلب ، فلقيه المجذر بن زياد البلوي ، حليف الأنصار ، ثم من بني سالم بن عوف ، فقال المجذر لأبي البختري ‏‏:‏‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن قتلك - ومع أبي البختري زميل له ، قد خرج معه من مكة ، وهو جنادة بن مُلَيحة ‏بنت زهير بن الحارث بن أسد ؛ وجنادة رجل من بني ليث ‏‏.‏‏ واسم أبي البختري ‏‏:‏‏ العاص - قال ‏‏:‏‏ وزميلي ‏‏؟‏‏ فقال له المجذر ‏‏:‏‏ لا والله ما ، نحن بتاركي زميلك ، ما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بك وحدك ، فقال ‏‏:‏‏ لا والله ، إذن لأموتن أنا وهو جميعا ، لا تتحدث عني نساء مكة أني تركت زميلي حرصا على الحياة ‏‏.‏‏ فقال أبو البختري حين نازله المجذر وأبي إلا القتال ، يرتجز ‏‏:‏‏

لن يسلم ابن حرة زميله * حتى يموت أو يرى سبيله

فاقتتلا فقتله المجذر بن ذياد ‏‏.‏‏ وقال المجذر بن زياد في قتله أبا البختري ‏‏:‏‏

إما جهلت أو نسيت نسبي * فأثبت النسبة أني من بَلي

الطاعنين برماح اليزني * والضاربين الكبش حتى ينحني

بشر بيتم من أبوه البختري * أو بشون بمثلها من بَني

أنا الذي يقال أصلي من بلى * أطعن بالصعدة حتى تنثني

وأعبط القرن بعضب مشرفي * أرزم للموت كإرزام المري

فلا ترى مجذرا يفري فري

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ ‏‏"‏‏ المري ‏‏"‏‏ عن غير ابن إسحاق ‏‏.‏‏ والمري ‏‏:‏‏ الناقة التي يستنـزل لبنها على عسر‏‏.‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ثم إن المجذر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ‏‏:‏‏ والذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به ، فأبى إلا أن يقاتلني ، فقاتلته فقتلته ‏‏.‏‏

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ أبو البختري ‏‏:‏‏ العاص بن هشام بن الحارث بن أسد ‏‏.‏‏